الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار، أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار، إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} قوله تعالى}وقالوا} يعني أكابر المشركين }ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار} قال ابن عباس: يريدون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ يقول أبو جهل: أين بلال أين صهيب أين عمار أولئك في الفردوس واعجبا لأبي جهل مسكين؛ أسلم ابنه عكرمة، وابنته جويرية، وأسلمت أمه، وأسلم أخوه، وكفر هو؛ قال: {أتخذناهم سخريا} قال مجاهد: أتخذناهم سخريا في الدنيا فأخطأنا }أم زاغت عنهم الأبصار} فلم نعلم مكانهم. قال الحسن: كل ذلك قد فعلوا؛ اتخذوهم سخريا، وزاغت عنهم أبصارهم في الدنيا محقرة لهم. وقيل: معنى }أم زاغت عنهم الأبصار} أي أهم معنا في النار فلا نراهم. وكان ابن كثير والأعمش وأبو عمر وحمزة والكسائي يقرؤون }من الأشرار اتخذناهم} بحذف الألف في الوصل. وكان أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم وابن عامر يقرؤون }أتخذناهم} بقطع الألف على الاستفهام وسقطت ألف الوصل؛ لأنه قد استغنى عنها؛ فمن قرأ بحذف الألف لم يقف على }الأشرار} لأن }أتخذناهم} حال. وقال النحاس والسجستاني: هو نعت لرجال. قال ابن الأنباري: وهذا خطأ؛ لأن النعت لا يكون ماضيا ولا مستقبلا. ومن قرأ}أتخذناهم} بقطع الألف وقف على }الأشرار} قال الفراء: والاستفهام هنا بمعنى التوبيخ والتعجب. }أم زاغت عنهم الأبصار} إذا قرأت بالاستفهام كانت أم للتسوية، وإذا قرأت بغير الاستفهام فهي بمعنى بل. وقرأ بو جعفر ونافع وشيبة والمفضل وهبيرة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي،}سخريا} بضم السين. الباقون بالكسر. قال أبو عبيدة: من كسر جعله من الهزء ومن ضم جعله من التسخير. وقد تقدم. }إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} }لحق} خبر إن و}تخاصم} خبر مبتدأ محذوف بمعنى هو تخاصم. ويجوز أن يكون بدلا من حق. ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. ويجوز أن يكون بدلا من ذلك على الموضع. أي إن تخاصم أهل النار في النار لحق. يعني قولهم}لا مرحبا بكم} الآية وشبهه من قول أهل النار. {قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار، قل هو نبأ عظيم، أنتم عنه معرضون، ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون، إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين} قوله تعالى}قل إنما أنا منذر} أي مخوف عقاب الله لمن عصاه وقد تقدم. }وما من إله} أي معبود }إلا الله الواحد القهار} الذي لا شريك له }رب السماوات والأرض وما بينهما} بالرفع على النعت وإن نصبت الأول نصبته. ويجوز رفع الأول ونصب ما بعده على المدح. }العزيز} معناه المنيع الذي لا مثل له. }الغفار} الستار لذنوب خلقه. قوله تعالى}قل} أي وقل لهم يا محمد }هو نبأ عظيم} أي ما أنذركم به من الحساب والثواب والعقاب خبر عظيم القدر فلا ينبغي أن يستخف به. قال معناه قتادة. نظيره قوله تعالى قوله تعالى}ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون} الملأ الأعلى هم الملائكة في قول ابن عباس والسدي اختصموا في أمر آدم حين خلق فـ {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين} قوله تعالى}إذ قال ربك للملائكة } إذ} من صلة }يختصمون} المعنى؛ ما كان لي من علم بالملأ الأعلى حين يختصمون حين }قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين}. وقيل}إذ قال} بدل من }إذ يختصمون} و}يختصمون} يتعلق بمحذوف؛ لأن المعنى ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم. }فإذا سويته} }إذا} ترد الماضي إلى المستقبل؛ لأنها تشبه حروف الشرط وجوابها كجوابه؛ أي خلقته. }ونفخت فيه من روحي} أي من الروح الذي أملكه ولا يملكه غيري. فهذا معنى الإضافة، وقد مضى هذا المعنى مجودا في }النساء} في قوله في عيسى {قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، قال فاخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين، قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين، إلى يوم الوقت المعلوم، قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين} قوله تعالى}قال يا إبليس ما منعك} أي صرفك وصدك }أن تسجد} أي عن أن تسجد }لما خلقت بيدي} أضاف خلقه إلى نفسه تكريما له، وإن كان خالق كل شيء وهذا كما أضاف إلى نفسه الروح والبيت والناقة والمساجد. فخاطب الناس بما يعرفونه في تعاملهم، فإن الرئيس من المخلوقين لا يباشر شيئا بيده إلا على سبيل الإعظام والتكرم، فذكر اليد هنا بمعنى هذا. قال مجاهد: اليد ها هنا بمعنى التأكد والصلة؛ مجازه لما خلقت أنا كقوله وقيل}لما خلقت بيدي} لما خلقت بغير واسطة. }أستكبرت} أي عن السجود }أم كنت من العالين} أي المتكبرين على ربك. وقرأ محمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير وأهل مكة }بيدي استكبرت} موصولة الألف على الخبر وتكون أم منقطعة بمعنى بل مثل قوله تعالى}قال أنا خير منه} قال الفراء: من العرب من يقول أنا أخير منه وأشر منه؛ وهذا هو الأصل إلا أنه حذف لكثرة الاستعمال. }خلقتني من نار وخلقته من طين} فضل النار على الطين وهذا جهل منه؛ لأن الجواهر متجانسة فقاس فأخطأ القياس. وقد مضى في }الأعراف} بيانه. }قال فاخرج منها} يعني من الجنة }فإنك رجيم} أي مرجوم بالكواكب والشهب }وإن عليك لعنتي} أي طردي وإبعادي من رحمتي }إلى يوم الدين} تعريف بإصراره على الكفر لأن اللعن منقطع حينئذ، ثم بدخوله النار يظهر تحقيق اللعن }قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون} أراد الملعون ألا يموت فلم يجب إلى ذلك، وأخر إلى وقت معلوم، وهو يوم يموت الخلق فيه، فأخر تهاونا به. }قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين} لما طرده بسبب آدم حلف بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات وإدخال الشبهة عليهم، فمعنى}لأغوينهم} لأستدعينهم إلى المعاصي وقد علم أنه لا يصل إلا إلى الوسوسة، ولا يفسد إلا من كان لا يصلح لو لم يوسوسه؛ ولهذا قال}إلا عبادك منهم المخلصين} أي الذي أخلصتهم لعبادتك، وعصمتهم مني. وقد مضى في }الحجر} بيانه. {قال فالحق والحق أقول، لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين، قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين، إن هو إلا ذكر للعالمين، ولتعلمن نبأه بعد حين} قوله تعالى}قال فالحق والحق أقول} هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة والكسائي. وقرأ ابن عباس ومجاهد وعاصم والأعمش وحمزة برفع الأول. وأجاز الفراء فيه الخفض. ولا اختلاف في الثاني في أنه منصوب بـ }أقول} ونصب الأول على الإغراء أي فاتبعوا الحق واستمعوا الحق، والثاني بإيقاع القول عليه. وقيل: هو بمعنى أحق الحق أي أفعله. قال أبو علي: الحق الأول منصوب بفعل مضمر أي يحق الله الحق، أو على القسم وحذف حرف الجر؛ كما تقول: الله لأفعلن؛ ومجازه: قال فبالحق وهو الله تعالى أقسم بنفسه. }والحق أقول} جملة اعترضت بين القسم والمقسم عليه، وهو توكيد القصة، وإذا جعل الحق منصوبا بإضمار فعل كان }لأملأن} على إرادة القسم. وقد أجاز الفراء وأبو عبيدة أن يكون الحق منصوبا بمعنى حقا }لأملأن جهنم} وذلك عند جماعة من النحويين خطأ؛ لا يجوز زيدا لأضربن؛ لأن ما بعد اللام مقطوع مما قبلها فلا يعمل فيه. والتقدير على قولهما لأملأن جهنم حقا. ومن رفع }الحق} رفعه بالابتداء؛ أي فأنا الحق أو الحق مني. رويا جميعا عن مجاهد. ويجوز أن يكون التقدير هذا الحق. وقول ثالث على مذهب سيبويه والفراء أن معنى فالحق لأملأن جهنم بمعنى فالحق أن أملأ جهنم. وفي الخفض قولان وهي قراءة ابن السميقع وطلحة بن مصرف: أحدهما أنه على حذف حرف القسم. هذا قول الفراء قال كما يقول: الله عز وجل لأفعلن. وقد أجاز مثل هذا سيبويه وغلطه فيه أبو العباس ولم يجز الخفض؛ لأن حروف الخفض لا تضمر، والقول الآخر أن تكون الفاء بدلا من واو القسم؛ كما أنشدوا: قوله تعالى}لأملأن جهنم منك} أي من نفسك وذريتك }وممن تبعك منهم أجمعين} من بني آدم }أجمعين}. قوله تعالى}قل ما أسألكم عليه من أجر} أي من جعل على تبليغ الوحي وكنى به عن غير مذكور. وقيل هو راجع إلى قوله
|